بين دبلوماسية الاستجداء وغياب القرار الوطني: قراءة في مأزق الدولة اليمنية الراهن
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - الساعة 08:49 مساءً
تتحرك الحكومة اليمنية منذ سنوات في فضاء إقليمي مضطرب، لكنها تتحرك –غالباً– بوصفها سلطة تبحث عن "منحة" أو "مساعدات مؤقتة" لإطالة عمر الخدمات الأساسية، أكثر من كونها دولة تمتلك رؤية استراتيجية لبناء اقتصاد منتج أو إدارة مواردها السيادية.
هذا المشهد، الذي يتجسد في الجولات المتكررة لرئيس الوزراء بين العواصم الخليجية طلباً للدعم، يكشف أزمة بنيوية عميقة تتجاوز شخوص السلطة لتصل إلى جوهر الأزمة اليمنية الحديثة: غياب الدولة القادرة على اتخاذ القرار السيادي.
أولاً: دبلوماسية المِنح… غياب القدرة وتآكل الصورة
الجوهر هنا ليس “السعي للحصول على دعم خارجي”، فهو أمر مشروع لكل الدول، بل في تحوّل هذا السعي إلى بديل كامل عن التخطيط الاقتصادي والإدارة الفاعلة والحوكمة الرشيدة.
أصبحت الدولة اليمنية، في لحظات كثيرة، تظهر في المشهد الإقليمي ككيان عاجز عن الوفاء بوظائفه الأساسية:
رواتب لا تُصرف بانتظام.
قطاع طاقة مشلول رغم وجود احتياطات هائلة من النفط والغاز.
خدمات عامة منهارة.
مؤسسات مالية تعمل بوضع الطوارئ الدائم.
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الضعف المؤسسي إلى انكماش الهامش الدبلوماسي، بحيث تتحول العلاقات مع دول الجوار من علاقات استراتيجية إلى علاقات “احتياج إنساني”، وهو وضع ينعكس سلباً على هيبة الدولة وصورتها أمام مواطنيها.
ثانياً: ثروات مُعطلة… بين السيطرة المجزأة وغياب الحوكمة
لا تكمن المشكلة في نقص الموارد، بل في توزّع السيطرة عليها بين أطراف مختلفة وعدم امتلاك الدولة المركزية أدوات إدارتها.
فالنفط والغاز –برغم تراجع الإنتاج بفعل الحرب– ما يزالان قادرين على تمويل ميزانية الدولة لو توفر:
1. إطار سيادي موحّد لتحصيل الإيرادات.
2. سلطة تنفيذية قادرة على فرض سيادة القانون داخل الحقول والموانئ.
3. منظومة شفافية تحمي الإيرادات من التسرب والفساد.
وبغياب هذه الشروط، تصبح الموارد عامل صراع أكثر من كونها عامل بناء، وتتحول إلى أوراق بيد القوى المحلية والإقليمية، بينما يفقد المواطن أبسط حقوقه في الخدمات الأساسية.
ثالثاً: البيئة الإقليمية… دعم مشروط أم نفوذ ممتد؟
لا يمكن تحليل وضع الحكومة اليمنية بمعزل عن ميزان القوى الإقليمي.
الدول الخليجية –رغم خلافاتها– تتعامل مع اليمن بوصفه ملفاً أمنياً بالدرجة الأولى، وليس مشروع دولة يجب تمكينها من اقتصادها. ولذلك تأتي المساعدات غالباً مشروطة، مؤقتة، ومحدودة التأثير.
ورغم أن “دولة خليجية واحدة” كانت قادرة اقتصادياً على إنقاذ اليمن، إلا أن تباين الحسابات السياسية والأمنية يجعل هذا السيناريو غير مرجح دون استقرار داخلي يمني ودون وجود شريك حكومي قوي يمتلك رؤية وسيادة.
رابعاً: الأزمة الحقيقية… أزمة قيادة أم أزمة منظومة؟
تتردد في الخطاب العام فكرة أن المشكلة "فيمن يحكم"، لكن التحليل الأعمق يشير إلى أن الأزمة هيكلية وليست شخصية.
فأي حكومة ستواجه:
جيشاً منقسم البنية.
اقتصاداً مُسقطاً من خارطة الإنتاج.
مؤسسات ممزقة بين صنعاء وعدن.
نفوذاً إقليمياً متداخل المصالح.
ومع ذلك، تبقى القيادة القادرة على اتخاذ قرارات جريئة وبناء تحالفات وطنية واسعة شرطاً لازماً للخروج من المأزق، وإن لم يكن كافياً بمفرده.
خامساً: نحو عقد اجتماعي جديد… استعادة الكرامة الوطنية
الحديث عن “رجال يعيدون الكرامة” ليس دعوة رومانسية بقدر ما هو توصيف لحاجة سياسية ملحّة: بناء نخبة وطنية تمتلك مشروعاً يتجاوز الاقتصاد الريعي والتبعية السياسية.
وهذا يستدعي:
1. إعادة هيكلة المؤسسات المالية والإدارية بما يمنع تشتت الموارد.
2. صياغة استراتيجية وطنية للنفط والغاز تقوم على الشفافية والإدارة المشتركة مع المجتمعات المحلية.
3. توحيد القرار العسكري والأمني ليصبح الاقتصاد ممكناً وليس رهينة.
4. تحرير السياسة الخارجية من عقلية الاستجداء عبر بناء شراكات تنموية حقيقية قائمة على المصالح لا على المنح.
5. تقوية المجتمع المدني والرقابة الشعبية لضمان عدم إعادة إنتاج الفساد السابق.
خاتمة:
المشهد اليمني اليوم يصرخ بحقيقة واحدة: لا يمكن لشعب يمتلك هذه الثروات أن يبقى أسير المِنح.
إن استعادة الكرامة الوطنية ليست شعاراً، بل مشروع دولة يتطلب إرادة سياسية، ورؤية اقتصادية، ونخبة تؤمن أن يمن المستقبل يجب أن يبنى بموارده، لا بصدقات الآخرين.













