ثقافة الاستبداد الأكثر بؤسًا في اليمن
الاثنين 01 ديسمبر 2025 - الساعة 09:00 مساءً
لا شكَّ أن للمأساة في اليمن نتائجُها الأكثر كارثيةً وإيلامًا، حيث تدور الحروب وتتصارع المشاريع الأخرى على سطح جغرافيتها الممزَّقة وعلى حساب سيادتها المنهارة، لكن الأسباب وحدها تكمن في استبداد الذات اليمنية القابل للتوظيف الخارجي ضد تشكُّل الذات الوطنية في اليمن؛ استبداد أعمق وأكثر بؤسًا داخل نفوس اليمنيين أنفسهم، ولم يأتِ بفعل فاعل من خارج جغرافيتهم أو من خارج مكونهم الإنساني. إنه استبداد يتغلغل في النفوس قبل الأنظمة التي تعد انعكاسا لهذا الغلغل، في الثقافة قبل السياسة، في طريقة التفكير والممارسات العامة تجاه البعض قبل ممارسة الحكم والسلطة تجاه الجميع.
من الغريب والموجع في الوقت نفسه أنه مع حاجتنا القصوى والمتزايدة لتأسيس قيم التمدُّن وحرية الكلمة وثقافة التعايش مع الآخر، من أجل تحويل اليمن إلى دولة ووطن، نجد أن فكرة "الآخر" نفسها تواجه إشكالية وجودية، قبل أن تكون إشكالية وطنية تتعلق بمفهوم المشاركة السياسية أو حتى صناعة القرار السياسي.
في اليمن لا شيء مرتبطًا بشكل جوهري بجذر المشكلة والحل على حد سواء غير ذات الآخر ومفهومه الثقافي والسياسي والوطني لدى اليمنيين أنفسهم. فماذا يعني الآخر في حقيقة الأمر؟
إذا لم يكن يعني من جهة أولى:ذلك الآخر المختلف عنك وعن منبرك وعن مشروعك وعن تصوُّراتك بشكل عام، ومن جهة ثانية: يجب أن يكون وجود الآخر المختلف عن كل شيء تمثِّله أنت غير قابل لعدم الوجود، وغير قابل للمصادرة والإلغاء في الزمان والمكان الذي أنت فيه موجود وتمارس فيه حقوقك.
هذا هو الآخر في السنن البشرية والتاريخ الإنساني والثقافة والفكر السياسي المدني، وأكثر من ذلك في مفهوم الوطن وصيرورة بنائه على المستوى السياسي والاجتماعي. والأهم من هذا وذاك، هذا هو الآخر المختلف حتى في سنة الله تعالى وخلقه للإنسان على هذه الأرض، قال تعالى: «مَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».
المشكلة في اليمن أن هذا الآخر -الذي يجب أن يكون مختلفًا عنك في فكره ومنبره وتصوراته- لا يُنظر إليه كشريك ضروري في بناء الوطن والمستقبل، ولا يُمنح الحق الطبيعي في الوجود، كما يرى الأنا لنفسه هذا الحق الطبيعي (وليس القانوني) في الوجود. الآخر في اليمن ليس كائنًا يجب أن يظل غير مقبول فحسب، بل كائن يجب أن يُلغى من الوجود ويتحوَّل إلى عَدَم، وهنا تكمن جذر المشكلة اليمنية وإشكالية الدولة الوطنية الديمقراطية التي لم تتحول الى واقع يمس حياة الإنسان.
على هذا الأساس فإن وجود الآخر في نفس الزمان والمكان الذي يحتله الأنا، يُعتبر تحدِّيًا لا يُغتفر في اليمن. وهذا بحد ذاته مأزق ثقافي اجتماعي أكثر منه سياسي. ولأنه مأزق ثقافي بدرجة أولى، فإنه يجعل اليمنيين دائمًا وأبدًا يدورون في حلقة حلزونية مفرغة، يستهلكون فيها طاقاتهم ومواردهم، ويطاردون بكل الممكنات لديهم حضورهم الزمني على حساب وجودهم التاريخي.
في هذه الحلقة المفرغة المتكررة لا شيء نفعله كيمنيين غير أننا نسلم اليمن للآتي من خارج الذات اليمنية؛ بعد أن نُصفي بعضنا مرة من موقع القوة والانتصار، ونُصفي مرتين من موقع الضعف والهزيمة. وحتى عندما تفرز مآسينا المستمرة معادلات جديدة، لا نكون نحن أطرافها الحقيقيين، أولئك القادمون بوعيٍ من مرارة التجارب والخيبات التي تجرعناها جميعًا على حساب بعضنا. بل يكون حضورنا مجرد تخندق سياسي في معادلات ثأرية ضد بعضنا، ومن ثم يصبح الأطراف الحقيقيون في المعادلة الجديدة هم مشاريع الهزيمة والانتصار، وليس نحن، الأنا والآخر الذي يجب أن نشكل الذات اليمنية.
وفق هذه المعادلات المشوَّهة الخالية من الوعي بجوهر الإشكالية، لا يعد الانتصار والهزيمة يعنيان وجود مشروعين لطرفين عاقلين، بل يصبحان وجهين لعملة واحدة غير قابلة للتعايش والسلام، حتى داخل الذات نفسها (ولهذا يتصارع اليمنيون حتى داخل المكون الواحد). إنها عملة لا يمكنها أن تؤمِّن استمرار الحياة في المجتمع، ولن تتحول أبدًا إلى رأس مال وطني يعزز الاستقرار والسلام في الحاضر أو المستقبل. فهي عملة ثأرية، طُبعت في مطابع الاستبداد السياسي، ولا تتداول إلا في سوق الإقصاء السياسي، السوق الذي لا يكف عن الرواج والتكرار في اليمن.
الأكثر إيلامًا أن اليمنيين، رغم مرارة الماضي ووحشة الحاضر، لم يتعلموا بعد من النتائج الكارثية للإقصاء. فهم لا يمارسونه فقط من مواقع السلطة والحرص الشديد على البقاء فيها، بل يحملونه في وعيهم وأحلامهم وثقافتهم، حتى وهم في موقع الضحية ينتظرون بفارغ الصبر اللحظات المناسبة ليس لتقديم نموذج وطني حضاري يدين سياسيًا وأخلاقيًا ذالك الجلاد الذي مارس الاستبداد والإقصاء عليهم، بل ليمارسوه بدورهم وفق منطق "رد الصاع صاعين". هكذا يبدو الحاضر دائمًا في اليمن مجرد تكرار هزلي للماضي وليس محطة للانطلاق نحو المستقبل الذي يجب أن يكون.
هنا تكمل المأساة دورتها المعيقة للمستقبل والوطن المتعثران، فالزمن في اليمن وحده يسير إلى الأمام بحركة مجردة خالية من صيرورة التاريخ وتقدمه السياسي، أما اليمنيون كبشر فيعودون إلى الماضي مع حركتهم الحلزونية. والشعوب عندما تتحرك في حركة الزمن نحو الماضي، فإنها بدون شك تدير ظهرها للمستقبل، وتصنع قطيعة المستقبل ليس مع الأجيال القادمة فقط، بل مع حاضرها الذي لا يجد مقرًّا من أن يستدعي الماضي.
مع مثل هذا الحال في اليمن: فإن الحل لا يكمن في تغيير القيادات السياسية فقط (مع أهمية ذلك على المستوى السياسي)، بل في تغيير ذلك الجهاز المفاهيمي السائد الذي يشكل ديناميكية السلوك والمحددات الثقافية لعقلنا الجمعي. إننا بحاجة إلى ثقافة جديدة تنفخ فينا روحًا مختلفة، تتجاوز بنا جميعًا معضلة الاستبداد المتأصل فينا. استبداد أصبح نظامًا ثقافيًا ومعرفيًا يتغلغل في كينونتنا الجمعية، قبل أن يكون نظامًا سياسيًا يحكمه شخص مستبد يقف على رأس السلطة الحاكمة.
وحتى ندرك ذلك، سنظل ندور في حلقة البؤس نفسها، بؤس الاستبداد المتغلغل فينا ثقافيًا، حاملين في داخلنا بذور دمارنا، وليس بذور الوطن الذي تحلم به النخب الثقافية، ويحتاج إليه اليمنيون جميعًا.















