كبوة خالد الرويشان: توحيد جيش الوحدة أم استئصال جيش الجنوب؟
الاحد 21 ديسمبر 2025 - الساعة 10:49 مساءً
للأستاذ خالد الرويشان كامل الحق في كتابة ما يعتقد أنه الحقيقة، وللآخرين الحق في التفاعل مع رأيه. لكني، شخصيًا، ما كنتُ لأكتب هذا الرد لو أن كاتب المقال شخصًا عاديًا. مكانة الرويشان الوطنية والثقافية هي ما جعلتني أعتبر مقاله "كبوة كبيرة" ما كان لمثله أن يقع فيها. وإذا كان العنوان يُعدّ ملخصًا لفكرة المقال أو الكتاب، فإن كبوة الرويشان بدأت من العنوان ={حرب توحيد الجيش} واستمرت في صلب مقاله.
لم تكن حرب 1994 حرب "توحيد الجيش" كما ذهب إليه أستاذنا القدير، بل كانت حرب التخلص من الجيش القادم من الجنوب، الذي كان أكثر احترافية وانحيازًا لمشروع الدولة الديمقراطية الناشئة. الفرق جوهري وكبير بين المصطلحين: فالتوحيد الحقيقي كان يتطلب إعادة الهيكلة والدمج الوطني للجيشين بناءً على المرجعيات السياسية للوحدة، بينما ما حصل في الواقع كان تدميرًا عسكريًا وسياسيًا للجيش القادم من الجنوب إلى دولة الوحدة، وتسريح أفراده، وتكفير قياداته، كما طالب الشيخ الزنداني آنذاك بقوله: "سلموا أنفسكم لأقرب مسجد قبل أن تسلموا لأقرب قسم؛ تعلَّموا الإسلام".
كما أن النظرة السطحية في مقال الرويشان تُغفل الكارثة الحقيقية التي أعقبت الحرب التي اعتبرها حرب توحيد الجيش. صحيح، قد يقول البعض إن الرويشان ينظر إلى الأمر بواقعية، فالحرب أنهت ثنائية السلاح والقيادة السياسية للجيش اليمني في ظل دولة الوحدة. لكن هذه نظرة قاصرة لا تليق بهامة ثقافية مثل الرويشان، لأنها تتغافل عن حقيقة الانقسام الأكثر كارثية داخل الجيش اليمني والذي حدث بعد 1994، أكثر مما كان قبل حرب صيف 94، حيث تحوّل الجيش إلى إقطاعيات عسكرية بين الرئيس علي عبدالله صالح واللواء علي محسن الأحمر.
هذا الانقسام الذي جعل صالح وعلي محسن في سباق مع الزمن بخصوص استقطاع وحدات الجيش اليمني، يقدم لنا الدليل القاطع ليس على استئصال جيش الجنوب في ظل دولة الوحدة بفعل الحرب فقط، بل على أن السلطة المنتصرة في الحرب عملت على ابتلاع دولة الوحدة الناشئة من الأساس.
إذا كانت ثنائية الجيش اليمني قبل حرب صيف 94 ثنائية طبيعية ناتجة عن وحدة دولتين في دولة واحدة، لكنها كانت قابلة للحل السلمي الديمقراطي بناءً على المرجعيات السياسية والدستورية المؤسسة لدولة الوحدة، كما حدث في ألمانيا التي لم تلجأ إلى حرب توحيد الجيش في عام 1990. وهنا أود أن أذكر الأستاذ خالد الرويشان بأن الأستاذ جار الله عمر على إثر انتخابات 1993 قاد رأيًا داخل الحزب الاشتراكي ينادي بخروج الحزب من السلطة والانتقال إلى صفوف المعارضة، وهذا يعني أن التزام أطراف الوحدة بمرجعياتها السياسية، ونتائج الانتخابات الديمقراطية كان سيقود إلى إلغاء الثنائية السياسية والعسكرية مع الحفاظ على دولة الوحدة اليمنية. فالحرب لم تكن ضرورة حتمية وقدرًا محتومًا كما يذهب الرويشان في مقاله، ناهيك عن حقيقة أن الجيش اليمني بعد حرب صيف 94 لم يتوحد أصلاً.
فالانقسام الذي حدث للجيش بعد الحرب كان غير طبيعي وليس له أساس،وأدى إلى انهيار مؤسسة الجيش وإفراغها من دورها الوطني. ما يعني في النتيجة النهائية أن اليمن بعد حرب صيف 94 لم تعد تملك جيشًا بالمعنى الحقيقي، بل أصبحت تملك إقطاعيات عسكرية موالية للأشخاص. والدليل على ذلك أن جيش علي محسن ذاب كالملح في مواجهة الحركة الحوثية، أما جيش صالح فسلَّم سلاحه ومعسكراته للحركة الحوثية ومكَّنها من الاستيلاء على السلطة والانقلاب على آخر فرصة تاريخية تتعلق بمستقبل اليمنيين.
الأسئلة المطروحة هنا تقول: إذا كان الأستاذ خالد الرويشان بحسن نية يرى في حرب صيف 1994 أنها حرب توحيد الجيش اليمني، فأين ذهب هذا الجيش عندما أصبح الوطن والمواطن في أمس الحاجة إليه؟ لماذا لم يحمي الجمهورية اليمنية في عام 2014 حين عادت الإمامة؟ ولماذا لم يحمِي الوحدة اليمنية والسيادة الوطنية بعد 2014؟
إذا كانت دولة الوحدة تحتاج إلى جيش وطني واحد، فأين هذا الجيش الذي توحد على إثر حرب صيف 94؟ وأين هي اليوم دولة الوحدة اليمنية؟ حتى نستطيع في المقابل أن نتعاطى إيجابيًا ولو بالحد الأدنى مع مقولة "حرب توحيد الجيش" ونتغاضى في نفس الوقت عن النتائج السياسية لهذه الحرب.
أنا لا أختلف مع الأستاذ خالد الرويشان في مسألة أن الأصل في دولة الوحدة اليمنية هو دمج وتوحيد الجيشين القادمين من تجربة الشطرين، لكن ما يجب أن يدركه الأستاذ خالد الرويشان أن ما حدث في حرب صيف 94 هو استئصال للجيش القادم من جنوب اليمن وسيطرة الجيش القادم من شماله على مقاليد السلطة.
صحيح أن الأستاذ خالد الرويشان يرفض فكرة الحرب جملةً وتفصيلاً، ويرى أنها "ملعونة"، لكنه يثير في مقاله تساؤلات لاذعة حيث يقول: لماذا يتركز الحديث والعويل الذي لا يهدأ على حرب صيف 94، وكأنها الحرب الوحيدة في تاريخ اليمن؟ ولماذا يُراد لها أن تكون حجر الزاوية الذي إذا سقط، تحطم الجسد اليمني الواحد؟ وكأن اليمنيين، لو لم تقع هذه الحرب، لكانوا يعيشون في سلام وسعادة دائمين! كما يتساءل عن سبب التغافل عن الحروب والصراعات الدموية التي شهدها الشطران قبل الوحدة، عابرًا في مقاله إلى ذكر الحروب اللاحقة في اليمن حتى يومنا هذا.
من حقه إثارة هذه التساؤلات المشروعة. وفي المقابل، يمكن القول في ردّنا على تلك الأسئلة المطروحة – مستذكرين مقولة قديمة – "إن كنتَ تدري فتلك مصيبة، وإن كنتَ لا تدري فالمصيبة أعظم". صحيح أن اليمن عاش ولا يزال يعيش حالة من التكرار الهزلي للحروب المستمرة، إلا أن استثنائية "العويل" والصخب حول حرب 1994 تحديدًا تنبع من المسؤولية التي تتحملها هذه الحرب عن واقع اليمن حتى اليوم. قد يقول قائل: لماذا كل هذا الجزم بخصوص مسؤولية حرب صيف 94 تجاه واقع اليوم؟
نعم، ثمة جزم هنا غير قابل لشك: لأن اليمن كانت ستسير في مسار مختلف تمامًا، أكثر سعادة واستقرارًا، لو لم تشعل حرب صيف 1994 على يد الرئيس صالح. فتفرد كارثية هذه الحرب مقارنة بكل ما سبقها، يكمن في عدة أوجه جوهرية لا يمكن تجاهلها:
أولاً: حرب صيف 94 كانت أول حرب تُشن في ظل دولة الوحدة اليمنية (1990)، بعد أن توحد الشمال والجنوب في دولة واحدة. لقد جاءت هذه الحرب لتدمر قواعد اللعبة السياسية الجديدة، وتؤسس لسلطة الغلبة والعنف، بعد أن كان اليمنيون، ولأول مرة في تاريخهم، قد احتكموا لسلطة صناديق الاقتراع واختاروا التخلي دستوريًّا وسياسيًّا عن الحرب كوسيلة للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
ثانيًا: حرب صيف 94 انقلبت على أول مشروع سياسي حقيقي لتأسيس دولة وطنية ديمقراطية حديثة في اليمن، مشروع كان بمقدوره أن يحول اليمن الموحد إلى وطن كبير وجامع لكل أبنائه في الشمال والجنوب.
ثالثًا: حرب صيف 94 انقلبت على سلطة العقل السياسي الحزبي المؤسسي الذي كان يفترض أن يدير دولة الوحدة اليمنية ={ دولة الحرية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة} وفي المقابل أعادت إنتاج سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخيًّا في اليمن ={ سلطة القبيلة والعائلة والجهوية والمناطقية...} .
رابعًا: حرب صيف 94 لم تكتفِ بهزيمة الخصم السياسي ={ الحزب الاشتراكي اليمني } في إطار الائتلاف السياسي الحاكم، بل ذهبت نحو "جنوب اليمن" وتعاملت معه كطرف مهزوم في الحرب، مما دمر أسس الشراكة والمساواة التي قامت عليها الوحدة، وهشَّم ثوابتها الوطنية في نفوس الجنوبيين.
خامسًا: حرب صيف 94 خرجت عن نطاقها السياسي وباعتبارها حربًا بين أطراف سياسية، حيث رُفع شعار محاربة "قوى الردة والانفصال" وتم توظيف فتاوى دينية (مثل فتاوى الديلمي والزنداني) لوصم الخصوم السياسيين بالكفر والإلحاد، مما حوَّل الجنوب اليمني من طرف في نزاع سياسي حول قضية الدولة إلى "غنيمة حرب" في إطار صراع بين "مسلمين وكفار".
سادسًا: حرب صيف 94 عززت لدى الرئيس الراحل صالح نزعة التوريث السياسي، ومكَّنته عسكريًّا وأمنيًّا من السيطرة العائلية على مقاليد السلطة الحاكمة في اليمن الأمر الذي زاد في نسبة الاحتقان السياسي وفخخ مستقبل اليمن.
هذه الأوجه الستة مجتمعةً { نتاج الحرب } تحولت إلى أسباب بنيوية عميقة – سياسية واجتماعية واقتصادية – غذت كل الصراعات اللاحقة، وقادت في النهاية إلى حالة الانهيار الشامل التي يعيشها اليمن اليوم. لذا، إذ كانت حرب صيف 1994 هي الجرح التأسيسي الأول في القضية الجنوبية، فإنها في المقابل هي المعلم الذي غيَّر المسار كله في اليمن الموحد، مما يفسر ذلك العويل الذي لا يهدأ حولها، فحرب صيف 1994، فعلاً وبكل المقاييس هي حرب استثنائية في كارثيتها ــ السياسية والاجتماعية والثقافية والهوياتية ــ على مستقبل اليمنيين دون سواها.













