السعودية قلبت الطاولة في لبنان وبيروت أضحت رهينة صنعاء
الاثنين 20 نوفمبر 2017 - الساعة 03:47 صباحاً
المصدر : القدس العربي
لبنان إلى أين؟ ربما هذا السؤال الذي باتت الإجابة عليه فيها الكثير من القراءات المتناقضة. سؤال «إلى أين؟» أصبح اليوم على لسان كل مسؤول ومواطن في بلاد الأرز، وهو سؤال ارتبط بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط بعد الأزمات التي عصفت بلبنان عقب اغتيال الحريري سنة 2005 وما رافقها لاحقاً من تطورات آلت إلى اختلال موازين القوى.
سؤال يعكس اليوم حجم الغموض والقلق من المجهول الآتي بعد التحاق لبنان رسمياً وللمرة الأولى بشكل علني وكلي في لعبة المحاور المتصارعة في المنطقة، في وقت كانت نصائح عربية وغربية عدة تحضه على تحديد خط فاصل بين الدولة و«حزب الله» بوصفه ذراعاً عسكرية إيرانية منخرطاً بشكل كلي وعلني في الساحة المشتعلة إقليمياً وتمتد أياديه الأمنية والاستخباراتية إلى دول أخرى.
المأزق اليوم بات يتعدى كل الملابسات التي رافقت إعلان سعد الحريري استقالته المفاجئة والصادمة من الرياض، وتشكيك أركان التسوية اللبنانية بمدى طوعيتها، وبظروف إقامته ولاسيما في الأيام الأولى.
الراويات حول الأيام الـ 15 التي قضاها الرجل في المملكة السعودية بلده الثاني حامل جنسيته، هي روايات متعددة ومتضاربة وفيها الكثير من «الإثارة الهوليودية» تتخطى «الزلزال اللبناني» إلى «الزلزال السعودي الداخلي» الذي رافقه ليلاً في سبت الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر، تحت مسمى «مكافحة الفساد» وأدى للمرة الأولى إلى توقيف أمراء ووزراء وكبار المسؤولين السابقين في بلد لم يشتهر بالانقلابات.
الرهان على قابل الأيام أن تكشف ما جرى ربما لن يكون في متناول اليد، وربما ما عاد مهماً كثيراً إلا من زاوية مراجعة لبنان كدولة لمدى الحاجة إلى إدخال تعديلات على الدستور اللبناني تمنع إزدواجية الجنسية لأي شخص يتولى مسؤولية رفيعة في الدولة، وذلك حفاظاً على استقلالية القرار اللبناني ومصالح وكرامة البلد.
مراجعة قد تشكل بداية ضرورية وإن كانت تعتريها الكثير من العوائق التي تجعل لبنان وقياداته وشعبه بمنأى عن تأثيرات دول خارجية بفعل عوامل إرتباط مكوناته دينياً وسياسيا بتلك الدول.
خاض «حزب الله» من وراء الستارة معركة الفصل الأول في مواجهة استقالة الحريري بتحويل الأنظار عن مضمون الاستقالة إلى ظروفها وشكلها وجعلها معركة «فك أسر رئيس حكومة لبنان» ونجح في ذلك.
في الواجهة كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أحد مكوني التسوية السياسية، ومعه الصهر»الوريث» وزير الخارجية جبران باسيل، ورئيس مجلس النواب نبيه بري أحد طرفي «الثنائية الشيعية» الحاكمة، وفريق الحريري الضيق.
وبدا أن الاتصالات هدفها استيعاب الصدمة وتداعياتها الداخلية ومحاولة احتواء «الانقلاب» من خلال تجميد أي بحث في الاستقالة إلى حين عودته وتقديمها وفق الأصول الدستورية.
تكتيك المعركة اقتضى ربح ما أمكن من الوقت، وترك المملكة الأمور مائعة وفرّ لخصومها الفرصة لفرملة زخم الاندفاعة السعودية، ولكل من الأطراف اللبنانية أهدافه. أما وأنّ الفصل الأول قد انتهى مع مغادرة الحريري الرياض إلى باريس، وتأكيد الرئيس الفرنسي عودته إلى لبنان، فإن أبواب الأزمة الحقيقية التي هي أزمة سياسية ووطنية قد بدأت، لا بل فُتحت حين تأكد رئيس الجمهورية ومحوره السياسي أن وساطة إيمانويل ماكرون قد نجحت في تأمين خروج الحريري.
وهي فتحت أيضا عبر الهجوم المباشر لعون على المملكة وجولات صهره المكوكية على دول أوروبية وتركيا وروسيا وإعلان مواقف ذات سقف عال ضد الرياض، في وقت كان رهان البعض على رئيس الجمهورية وقدرته على تدوير الزوايا وتفكيك الألغام، لكن ذلك الرهان الذي حرص الحريري على تظهيره في مقابلته التلفزيونية مرشح لأن يخيب إن لم يكن قد خاب فعلاً.
تصعيد عون يحمل في طياته تحضير مسرح المواجهة مع الحريري. فصل التضامن انتهى الآن، والبحث سينتقل إلى أصل الأزمة. هنا يتغيّر المشهد. «حزب الله» يدرك ما هو معنى استقالة الحريري وتبعاتها. يدرك أن عقارب الساعة لن تعود إلى ما قبل الرابع من تشرين الثاني، وما كان يسري سابقاً لم يعد ممكناً تطبيقه اليوم.
لعل عون ظنّ بداية ومعه بري أنه يمكن إعادة بث الروح إلى جسد التسوية المنهك، لكن الحزب العالم ببواطن الأمور حدد المسار.
هو مسار المواجهة، ونقْلِها من مواجهة مع «حزب الله» إلى مواجهة مع لبنان بأكمله، وإلاّ كيف يمكن لرئيس جمهورية تصله النصائح يومياً عن ضرورة فك الارتباط بين صورة الدولة والحزب أن يذهب في الاتجاه المعاكس ويؤكد من دون مواربة على التماهي الكلي لرأس الدولة مع «حزب الله»؟ إنه إعلانٌ متقدم برهن مسار الدولة اللبنانية كاملة ومصيرها بمسار الحزب ومصيره.
هل نتحدث هنا عن اختطاف الحزب للبنان؟ الـ«نعم» تعني أن لبنان، دولة ومؤسسات، عليه أن ينتفض، لكن التصدي لهذه الـ«نعم» لا يقنع الرئيس الآتي على حصان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي قال يوماً أنه أعطى كلمته لعون وليس من أخلاقه أن ينقضها! فرهان الحزب كان منذ البداية رهان الواثق من الرجل في قصر بعبدا، الرجل الذي يتخطى حلمه الوصول إلى رئاسة الجمهورية إلى القناعة الراسخة بـ»مشروع تحالف الأقليات» في المنطق الذي تراه إيران.
والـ»نعم» لاختطاف «حزب الله» للبنان تعني أيضاً أن انخراط الحريري في التسوية كان رهاناً خاطئاً مع ظنّه أن وجود عون في سدة الرئاسة سيدفعه لأن يكون «بي الكل»- كل اللبنانيين- وأن ينتقل إلى مربع الوسطية ومربع حماية مصلحة لبنان وأبنائه بتأكيد الانتماء العربي للبنان، وإلى أن ينأى به عن الأزمات في المنطقة.
كثر من المراقبين كانوا يرون أن تلك التسوية – الصفقة تشكل بمعناها السياسي تسليماً لـ«حزب الله» وبالتالي لمحور إيران في المنطقة. وهؤلاء كانوا ينطلقون من معطى أساسي وهو أن الاتفاق تضمّن وضع البنود الخلافية جانباً، ما اصطُلح على تسميته «ربط نزاع» على تلك الملفات التي تتناول سلاح «حزب الله» ببعده اللبناني الذي يجب أن يتم الاتفاق عليه من خلال استراتيجية دفاعية تضعه تحت أمرة القوات الشرعية، وببعده الخارجي حيث يقدم نفسه قوة إقليمية منخرطة في مشروع ولاية الفقيه الذي يعمل منذ «الثورة الإيرانية» على تصديرها إلى الخارج ومد نفوذها إلى دول المنطقة.
و«ربط النزاع» هذا انطلق من قراءة أفرقاء في قوى «الرابع عشر من آذار» التي يتزعمها الحريري بأن محور إيران مدعوما من روسيا يحقق انتصاراً في المنطقة على حساب محور الخليج المدعوم أمريكيا، وأن التسوية يمكنها أن تحد من انهيار الدولة اللبنانية نتيجة الفراغ الرئاسي، بانتــظـار أن تتغير الظروف في المنطقة.
كان ذلك كان قبل عام.
«حزب الله» كان مطمئناً إلى ما حققه من مكاسب: حليف موثوق به في سدة الرئاسة الأولى، الزعيم السني الأول لبنانياً في سدة الرئاسة الثالثة ببنود تسوية توفر الغطاء السياسي لسلاحه وتخفف الهجمة السياسية على سلاحه وتؤمن مناخ استقرار وارتياح لبيئته الحاضنة فيما أبناؤها يقاتلون خارجا.
كان الحزب مطمئناً إلى أن أمور الدولة ستسير كما يريدها كلاعب عن بعد، يحرك القرارات في ما خص المسائل الرئيسية من قانون انتخاب إلى السياسة الخارجية والأمن، الحرب والسلم، وإلى الصفقات لإطلاق سراح مقاتليه، وحجم التدابير المصرفية، وفضلاً عن ذلك التحكم بالصرف المالي لكثير من المؤسسات والوزارات بفعل انتماء وزير المال إلى «الثنائية الشيعية» وخروجه عن منطق الدولة إلى «النهج الميليشياوي».
اليوم، يدرك «حزب الله» أن الاستقالة هي رسالة سعودية واضحة أن مفاعيل التسوية انتهت، وأن القيادة السعودية التي وفّرت الغطاء السياسي بواسطة المكون السني قد سحبته، وأنها تعيد اللعبة إلى المربع الأول.
ثمة من يشير أن المملكة تريد فقط وقف المسار الانحداري للحريري، ورفع غطاء الشرعية عن «حزب الله».
إذا كانت تلك هي الحدود فعلاً، فإن الأمور يمكن أن تذهب إلى حال من المساكنة على غرار واقع ما قبل التسوية، بحيث ترتفع وتيرة المناوشات السياسية حينا وتخفت حيناً آخر، من دون أن توثر على الاستقرار الأمني في البلاد على أقله في الأشهر المقبلة إلى حين إجراء الانتخابات النيابية في أيار/مايو المقبل، وذلك يمكن توفيره من خلال الإبقاء على حكومة تصريف برئاسة الحريري وتسمية رئيس مكلف من دون أن يشكّل الحكومة، قد يكون الحريري نفسه أو أي شخصية سنية توافق عليها السعودية.
وأداء الحريري بعد وصوله إلى باريس وإجرائه اتصالات بالقيادات اللبنانية وتأكيده أنه سيشارك في العرض العسكري في عيد الاستقلال يوم الأربعاء المقبل يشي أن الرجل أتٍ بأبواب مفتوحة لا مقفلة، وأنه لا يزال يتعامل بروحية إمكان إحياء التسوية أو إعادة إنتاج تسوية جديدة.
لكن تلك القراءة لا تتماشى مع حجم الضغوطات التي أظهرتها السعودية.
من يقرأ موقف المملكة من موقع المؤيد، ينطلق من أن الخطوة جاءت في إطار تبدّل المشهد الإقليمي والاستراتيجية الأمريكية الجديدة لمرحلة ما بعد تنظيم «داعش» وتحجيم نفوذ إيران في المنطقة، وهو تبدلّ يقضي معه إما تعديل التسوية أو إعادة إنتاج تسوية جديدة.
فلبنان هو مرآة تعكس التوازنات الإقليمية وتظّهر الصورة الكبرى.
غير أن «حزب الله» لا يرى أن تبدلات كبرى حصلت فعلياً تستوجب إعادة إنتاج تسوية جديدة، لا بل أنه لن يسلك هذا الدرب مهما كانت الضغوط شديدة عليه، لأنه يربط الضربة التي تلقاها في لبنان بدوره في اليمن خاصرة السعودية الرخوة، ولأنه متيقن من أن الضغوط التي ستمارس عليه، من بوابة تعريض لبنان ومصالح أبنائه للخطر، معطوفة على العقوبات الأمريكية المالية ضده، محاصرته داخلياً وخارجياً، تهدف إلى إنهاء تأثيره في هذا البلد الذي يخوض فيه التحالف العربي بقيادة المملكة معركته الفعلية ضد إيران التي تأخذ من الحوثيين لسياستها التوسعية ولعبة تحسين أوراقها التفاوضية بعدما أعدتهم لأن يكونوا ذراعاً عسكرياً شبيهة بـ»حزب الله». نصر الله في خطابه الأخير رد جازماً وحاسماً في استحالة أن يكون اليمن محور مقايضة مقابل التسوية في لبنان.
موقف يمكن من خلاله فهم تصعيد رئيس الجمهورية الذي يتخوف مراقبون من أن يكون الهدف من ورائه رفع مستوى التأزم مع السعودية إلى حدود الانقلاب الكلي وقطع العلاقات مع الخليج ووضع لبنان في عزلة.
السعودية قلبت الطاولة في لبنان وحزب الله بات بين خيارات احتواء المواقف أو الذهاب في المواجهة إلى نقطة اللاعودة بما يشكل انقلاباً كاملاً ينكشف معه لبنان بشكل كلي.
«سيناريو» قد يكون بعض من أطراف الصراع الإقليمي والدولي يريده، بحيث يتم معه رفع الغطاء عن لبنان الذي لا يزال المجتمع الدولي حريصا على توفيره لتفادي حريق جديد في المنطــقــة وواقع لبناني متفجر ينفذ من خلاله نازحون سوريون ولبنانيون في «قوارب الموت» عبر شواطئ لبنان على البحر المتوسط إلى أوروبا!.
«القدس العربي»
رلى موفّق – بيروت
............................................
لمتابعة قناة الرصيف برس على تيلجرام
https://telegram.me/alraseefpress