الرئيس الحمدي وصناعة الفرصة التاريخية في شمال اليمن
الخميس 15 سبتمبر 2022 - الساعة 09:34 مساءً
فهمي محمد عبدالرحمن
مقالات للكاتب
في بلدان العالم الثالث التي تتميز في غالب الأحوال بقلة الوعي المجتمعي تجاه المسألة السياسية يصبح التغيير العمودي الذي يتحرك من رأس السلطة إلى قاع المجتمع هو الأكثر نجاعه في الواقع، والاكثر قدرة على تحقيق مسألة الإنتصار لمستقبل الأجيال القادمة، ليس لأن هذا الإسقاط الفوقي يختصر المراحل التاريخية التي تقوم على ديناميكية التراكم النوعي في مسار التغيير السياسي والإجتماعي على المستوى الاوفقي فحسب، بل لأن فكرة التغيير في هكذا حال إضافة إلى مسألة إحراق المراحل التاريخية تتسلح بسلطة وطنية رادعة وليس بوازع الضمير فقط، وهذا ما وجد اليمنيين أنفسهم أمام حدوثه على إثر صعود الرئيس ابراهيم الحمدي إلى رأس السلطة الحاكمة في العاصمة صنعاء 1974م.
على سبيل المثال بعد استقلال شمال اليمن من سيطرة الوجود العثماني خضع شمال اليمن للعديد من السلطات الحاكمة على المستوى الوطني إلا أن سلطة الدولة الوطنية ظلت هي السلطة الغائبة في حياة اليمنيين حتى في ظل نجاح ثورة سبتمبر في تبني النظام الجمهوري الذي استمر في صراع مع الملكية الأمامية ثمان سنوات ، وعندما رفع رئيس هيئة الأركان الضابط عبد الرقيب عبد الوهاب مع رفاقه في قيادة الالوية العسكرية من داخل صنعاء المحاصرة شعار الجمهورية أو الموت أثناء معركة حصار السبعين التي وضعت حداً فاصلاً لمعارك الدفاع عن الجمهورية، لم يكونوا تحت هذا الشعار يخضون معركة الخلاص الاخيرة مع وجود الملكية الإمامة فحسب، بل كانوا يدركون أن الإنتصار على الملكية أو على بيت حميد الدين يعني ضرورة الإنتصار لمحتوى النظام الجمهوري={ سلطة الدولة الوطنية} وليس الإنتصار للقوات التي احتشدت داخل معسكر الجمهورية مع إندلاع ثورة سبتمبر..
وهذا ما شكل بعد ذلك أحد المضامين السياسية المستقبلية في أحداث اغسطس التي انفجرت داخل معسكر الجمهورية بعد هزيمة الملكية، وأدت إلى تصفية عبدالرقيب عبد الوهاب ورفاقه خصوصا وقد شكلت مآلات هذه الأحداث حالة انفراج سياسي وعسكري أمام زحف القبيلة السياسية الجهوية داخل أجهزة ومؤسسات سلطة الجمهورية، وهو ما توافق يومها مع التوجهات السياسية لدولة الجوار التي كانت داعمة لعودة الملكية الأمامية، إلى سدة الحكم في العاصمة صنعاء..
بحيث تخلت هذه القوة الإقليمية عن دعم الملكية الأمامية واعترفت بالجمهورية العربية اليمنية في ظل تحالفها الجديد مع مشائخ وضباط القبيلة السياسية التي استلمت فعلياً مقاليد سلطة الثورة والجمهورية من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، واحداث اغسطس 1968خصوصاً بعد إنسحاب القوات المصرية من شمال اليمن ، الأمر الذي جعل من القبيلة السياسية سلطة جهوية تقليدية حاكمة في ظل النظام الجمهوري، ناهيك عن كون هويتها السياسية والإجتماعية -أقصد القبيلة السياسية- شكلت في كل الأحوال حالة سياسية واجتماعية عصبوية ممانعة لحضور فكرة الدولة الوطنية الديمقراطية.
هكذا كان هو حال المشهد السياسي للجمهورية العربية اليمنية، في عام 1970 حين أقدمت سلطتها الحاكمة على عقد اتفاقية المصالحة بين الملكيين المحاربيين وبين اللا جمهوريين الحاكمين، أو قل الجمهورين اللاثورين هذا من جهة أولى وبين سلطة صنعاء والمملكة العربية السعودية من جهة ثانية، ما يعني أن اتفاقية المصالحة الوطنية كانت في الزمان والمكان الذي تمت فيه عملية التشطيب السياسي في مسألة التخلي عن عودة الإمامة وعن مشروع الثورة السبتمبرية في نفس الوقت، لهذا ظل محتوى النظام الجمهوري مع انتصار الجمهورية على الملكية الأمامية قابل لطرح سؤال الدولة في وجه السلطة الحاكمة في صنعاء ={ سلطة القبيلة السياسية الحاكمة في ظل الجمهورية } وهو ما تصدت له "أي لسؤال الدولة" بطريقة مباشرة ثورة التصحيح التي قادها الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي في عام 1974م.
ما يميز ثورة التصحيح التي قادها الرئيس ابراهيم الحمدي في عام 1974 أنها تعاطت بشكل مباشر مع جذر المشكلة اليمنية في الشمال، فلم تكن في حقيقة الأمر ثورة ضد حاكم محدد بعينه أو ضد نظام حكم محدد، أو ثورة ضد أيديولوجيا حاكمة، بل كانت ثورة تصحيح ضد واقع اللادولة في الشمال هدفها الإنتصار في الحاضر والمستقبل لفكرة الدولة الوطنية في اليمن وهذا مكمن السر في مسألة تخليد الرئيس الحمدي في ذاكرة اليمنيين شمالاً وجنوباً مع اختلاف توجهاتهم السياسية والحزبية، فالرجل رغم أنه حكم فترة قصيرة جداً إلا أنه استطاع خلال هذه الفترة الزمنية أن يلامس وجدانياً حاجة اليمنيين المفقودة تاريخياً ={ سلطة الدولة } لهذا كان من الطبيعي أن يجد الرئيس الحمدي نفسه ( اراد ذلك أو لم يرد ) يخوض معادلة صراع حادة مع مشائخ وضباط القبيلة السياسية الجهوية التي بدأت مع ثورة التصحيح تفقد تدريجياً مقاليد سلطتها وحتى دورها السياسي في ظل الجمهورية لصالح سلطة الدولة التي بدت حاضرة سياسياً وقانونياً داخل الوجدان الشعبي على إثر ثورة التصحيح.
وبغض النظر عن بعض الاطروحات السياسية القابلة للتجاذب السياسي، إلا أن الشهيد ابراهيم الحمدي كان يخوض معركة بناء الدولة الوطنية برؤية جديدة، كما أن سؤال محتوى الجمهورية بدأ مع ثورة التصحيح يفقد تدريجياً مشروعية طرحه السياسي على طاولة المستقبل وذلك يعود إلى حقيقة أن ثورة التصحيح بقيادة الرئيس الحمدي تعاطت ايجابياً مع الحلول الجذرية للمشكلة اليمنية ={ مشكلة غياب الدولة } وهو ما انعكس بشكل إيجابي على العلاقة بين شمال اليمن وجنوبه وكذلك بين السلطة والمعارضة في الشمال، حتى مسألة الوحدة اليمنية بين الشطرين بدت قابلة للتحقيق على أساس إيمان نظام صنعاء ونظام عدن بمشروع الدولة الوطنية الديمقراطية لولاء عملية إغتيال الرئيس الحمدي في 1977/10/11م بحيث مثل هذا الاغتيال إنتصار لسلطة القبيلة السياسية على حساب سلطة الدولة التي لم تكن قد أكملت عامها الثالث في شمال اليمن، ما يعني في النتيجة النهائية أن اغتيال ابراهيم الحمدي لم يكن مجرد اغتيال لرئيس جمهورية في ظل الصراع السياسي على مقاليد السلطة فحسب، بل كان اغتيال لأحد اكبر الفرص التاريخية الناجعة في معركة بناء الدولة الوطنية في اليمن.