الجمهورية وشيخ القبيلة السياسية
الثلاثاء 04 أكتوبر 2022 - الساعة 10:43 مساءً
فهمي محمد عبدالرحمن
مقالات للكاتب
مع حركة التصحيح التي قادها الرئيس إبراهيم الحمدي منذ 1974م وحتى 11 أكتوبر 1987م، وهي ما يمكن أن نطلق عليها الجمهورية الثالثة تعلمت القبيلة السياسية الجهوية درساً جديداً يجب أن تستحضره مع سلطة الجمهورية الرابعة.
وهذا ما جعل الشيخ عبدالله الأحمر، يعترض على أن يتولى رئيس الجمهورية شخص من داخل مؤسسة الجيش، كما يتحدث الشيخ في مذكراته.
وهنا تكمن المفارقة العجيبة، فالشعب الذي يرى في تجربة الحمدي مشروع دولة يرى شيخ القبيلة السياسية أن صعود الحمدي خطأ ما كان يجب أن يحدث أو يتم القبول به مع أن الجيش مع حركة التصحيح بدا وكأنه أداة تغيير من أدوات الجمهورية تجاه المستقبل.
يتحدث الشيخ في مذكراته أنه كان معترضا على أن يتولى صالح منصب رئيس الجمهورية بعد أن تم اغتيال الرئيس أحمد الغشمي، لأنه حسب قوله في مذكراته يريد أن يعود الحكم في صنعاء للمدنيين.
وبدون شك فإن شيخ القبيلة السياسية لم يكن يقصد من وراء موقفه هذا تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، بل كان يستحضر في مخياله السياسي تجربة الرئيس الإرياني التي يجب أن تعود كنموذج سياسي في ظل الجمهورية الرابعة، سيما وأن سلطة الإرياني هي من منحت القبيلة السياسية حصان طروادة حينما كان مشايخ القبيلة السياسية والقوى التقليدية يخوضون معركة التتويج النهائي للفوز بمقاليد سلطة الجمهورية الثانية على حساب سلطة الثورة.
ما أعنيه بمعركة التتويج النهائي هي أحداث أغسطس 1978م التي كانت بالنسبة للقبيلة السياسية مواجهات عسكرية يجب أن تكون الفاصلة مع الخط الراديكالي المتمسك بخط الثورة وعلى وجه التحديد الخط المتواجد داخل الجيش.
فالشيخ الأحمر يؤكد في مذكراته أن المعركة العسكرية كانت في واقع الحال بين مشايخ القبيلة السياسية وعبد الرقيب عبدالوهاب ورفاقه من قيادات الوحدات العسكرية، أكثر من كونها بين هؤلاء الضباط الثوريين والقيادات العسكرية الكبيرة، سيما وأن هذه المواجهات العسكرية اندلعت بعد أن رفع هؤلاء الضباط في حصار السبعين شعار "الجمهورية أو الموت"، وتحولوا على إثر ذلك إلى رموز وطنية في الوجدان الشعبي، بعد أن هرب الجميع من داخل صنعاء تحسباً من إعادة سيناريو سقوط صنعاء في 1948م على يد القبائل الموالية للإمام أحمد.
وقد زاد من احتمال تكرار مثل هذا السيناريو، أن حصار السبعين حدث بعد أن تعرضت مصر 1967م لضربة عسكرية إسرائيلية بتكليف من الرئيس الأمريكي وبطلب من الملك فيصل، وهي الضربة التي اجبرت عبدالناصر على سحب قواته العسكرية من اليمن، بعد أن كانت حاضرة في قلب معركة الدفاع عن الثورة والجمهورية.
وعطفاً على ذلك إذا كان انسحاب القوات المصرية، قد مكن القبيلة والقوى التقليدية من تنفيذ انقلاب 5 نوفمبر 1967م على الرئيس السلال فإنه في نفس الوقت قد مكن السعودية والقوى الملكية من التقدم العسكري وحصار عاصمة الجمهورية، الأمر الذي يعني سقوط الجمهورية وسلطة تحالف القبيلة السياسية مع القوى التقليدية اللذين استلما مقاليد الحكم على إثر انقلاب نوفمبر.
هذا من جهة ومن جهة ثانية إذا كانت مخاطر سقوط الجمهورية التي أصبحت شبه مؤكدة في حصار السبعين لم تضعف عزائم هؤلاء الضباط الصغار المؤطرين بفلسفة العقل السياسي الحزبي، بل دفعتهم تلك المخاطر إلى رفع شعار "الجمهورية أو الموت"، فإن مثل ذلك جعل القبيلة السياسية التي تعد أحد نماذج العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، ترى بأن الخطر على مستقبلها لا يكمن في القوى الملكية التي يجب التصالح معها، بل يكمن في هؤلاء الضباط الثوريين الذين رفعوا شعار "الجمهورية أو الموت" خصوصاً وأن فلسفة العقل السياسي الحزبي تجعل من شعار «الجمهورية أو الموت» قضية نضالية مستقبلية تتعلق بالمحتوى السياسي والاجتماعي للنظام الجمهوري.
وفق هذه المعطيات كان إقصاء ضباط المحتوى السياسي والاجتماعي للجمهورية مسألة ضرورية بالنسبة للقبيلة.
وقد كانت أحداث أغسطس هي الفرصة.
وحتى نؤكد على أن أحداث أغسطس كانت معركة القبيلة السياسية، وليست معركة الدولة نترك الكلام للشيخ الأحمر الذي تحدث عن نفسه وعن مجاهد أبوشوارب في مذكراته بالقول: حزمنا أمورنا بسرعة وجمعنا حاشد المتواجدين في صنعاء وبجانبنا العقيد علي أبولحوم وأصحابه وشاركوا معنا مشاركة فعالة وجهزناهم ورتبناهم لحماية قصر السلاح والإذاعة وسور صنعاء.
ثم يقول: ودارت معركة حامية الوطيس استمرت ثلاثة أيام وعندما سمع الفريق العمري المدافع اتصل بي يطلب وقف الحرب، قلت له: لقد قلت لك من قبل، تدارك الأمور لا تفجر الموقف معهم، أما الآن فإن الموقف علينا!!! ص( 169)
ما يعني أن من يمثل رأس القوات المسلحة للجمهورية كان يطلب من الشيخ وقف الحرب وهذا الأخير يقول له خلاص الآن المعركة ليست معركتكم بل هي معركة القبيلة السياسية مع خصومها وعلينا أن نحسمها (أما الآن فإن الموقف علينا؟!) يقصد مشايخ القبيلة السياسية الجهوية.
في مذكراته لم يتناول الشيخ الأحمر أحداث أغسطس في سياق مواجهات داخل وحدات الجيش النظامية أو بين معسكرات دولة كما هو حال أحداث 86 على سبيل المثال، بل يتحدث بكل وضوح عن حرب بين الضباط الذين رفعوا شعار الجمهورية أو الموت في حصار السبعين وبين مشايخ القبيلة السياسية وتحديداً حاشد.
فالشيخ يؤكد أن الملكيين استغلوا الحرب وشنوا هجومهم، إلا أن الطرفين توقفا عن الحرب وتوجها لقتال الملكيين، وبعد دحر الملكيين عاد القتال ولم يكن بيننا وبينهم حدود هم في العرضي ونحن فوق الأسوار وقتل قرابة عشرين شخصاً معظمهم مشايخ من حاشد.
ثم يقول: وقد هجم أصحابنا بقيادة مجاهد أبو شوارب على العرضي مباشرة، وجرح العميد مجاهد وقتل في المقابل قائد سلاح المشاة محمد صالح فرحان والبقية سلموا والبعض انسحبوا.
ويختتم كلامه بالقول: كانت هذه مواجهات بين الجمهوريين واليساريين الذين كانوا يستهدفون اليمن بأكملها وحاولوا قلب نظام الحكم والاستيلاء على صنعاء.!!! ص 170.
هذه هي صورة عبدالرقيب عبدالوهاب ورفاقه في نظر القبيلة السياسية وهي صورة تحاكي تراجيديا الثورة والجمهورية مع القبيلة السياسية الجهوية التي احتشدت داخل معسكر الثورة.
لهذا كانت القبيلة هي "القوى الوطنية" التي تصدت لهؤلاء "العملاء" في ظل صمت وعجز الرئيس الإرياني الذي تحولت معه الجمهورية الثانية إلى حصان طروادة للقبيلة السياسية الجهوية.
من هنا فقط تبرز أهمية وجود الرئيس المدني في نظر القبيلة السياسية.
إذاً، من أهمية موقع الرئاسة ودور الإرياني ينطلق شيخ القبيلة في موقفه المعارض بخصوص تولي الرئاسة شخص عسكري قياساً على الدور الذي قام به المقدم إبراهيم الحمدي من موقعه كرئيس للجمهورية الثالثة، ما يعني أن معارضة الشيخ لم تكن ناتجه عن موقف مبدئي مع حكم المدنيين بل كان نتاج مقارنة برجماتية بين تجربة الأرياني والحمدي وهي مقارنة محكومة بمصالح القبيلة السياسية.
ما يعني أن الاعتراض على "صالح" كان مصدره الخوف من أن يكون صالح على شاكلة الحمدي بعد أن يستلم مقاليد الجمهورية الرابعة، إلا أن السعودية حسب قول الشيخ نقلته بطائرة خاصة إلى الرياض بهدف إقناعه بالرئيس صالح، لكنه لم يذكر تفاصيل ما جرى في الرياض.
ومع ذلك يقول الواقع إن الجمهورية الرابعة كانت هي العصر الذهبي الذي سيطرت فيه القبيلة السياسية الجهوية على مفاصل الجيش، بل احتكرت قيادة الجيش وتحولت إلى عصبية سياسية ولائية داخل أجهزة ومؤسسات السلطة، إلا أن الرئيس صالح في ظل المعطيات السياسية والاجتماعية والجغرافية وحتى العسكرية التي رافقت تأسيس الجمهورية الخامسة (الجمهورية اليمنية) عمل على إعادة صياغة المشهد السياسي والعسكري والولائي بما يجعل من شخصه رئيساً فوق سلطة القبيلة السياسية.